فيما يرى الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون أن النية وراء استخدام السخرية هي الإهانة فالإصلاح، إذ يقول “أن لذة الضحك حتى في المسرح ليست لذة خالصة، ويعني بقوله أنها ليست لذة فنية محضة لا ترمي البتة إلى نفع، بل تشوبها فكرة خفية يحملها المجتمع نيابة عنّا إن لم نحملها نحن أنفسنا، إن فيها نية لا تصرح بها وهي نية الإهانة فالإصلاح
وهذا ما ذهبت إليه الباحثة كيربر أريكشيونـي Kerbrat arecchioni Cathenine حيث نظرت إلى السخرية باعتبارها مجازا يجمع بين الخاصية الدلالية والتداولية، فقد لاحظت أن السخرية، من حيث المكون الدلالي، تستعمل بنية قلب المعنى، أي أن العلاقة بين المعنى الحر في الظاهر، والمعنى المشتق المضمر، علاقة تضاد وتعارض ومفارقة” .
أي التركيز على مفهوم الضد contraire أو التضـاد la contradiction الحاصل بين معنى واضح وجلي ومعنى غامض ومضمر، وتعتمد على بنية قلب المعنى l’antiphrase كبنية مركزية لها” .
غير أن الباحثة أوريكيشيوني لاحظت” من خلال تتبعها للغة الواصفة الموظفة في الخطاب الصحفي أو العادي، أن هناك مجموعة من الصعوبات تعترض الدارس عند الحديث عن قلب المعنى، تتلخص في مشكلة تشخيص ووصف طبيعة علاقة التضاد والتعارض في تلك الخطابات. إذ أن غالبيتها اعتمدت السخرية دون الاعتماد على التعارض الدلالي، ولا حتى أية مسافة دلالية، لقد جاءت هازئة فقط. كما أن بعضها الآخر قام بتوظيف بنية المبالغة Hyperbole أو التلطيف La litote لا غير” .
من هنا وجب استحضار المكون التداولي الذي يستلزم حضور القصدية intentionnalité. وقد أشارت أوريكشيوني إلى أن المكون التداولي أكثر هيمنة قياساً إلى المكون الدلالي حيث تقول: “إن قيمة التداولية لمتوالية ما أكثر من قيمتها الدلالية هي التي تجعلنا نحس أنها ساخرة، فأن نسخر معناه أساسا أن نستهزئ أكثر من أن نتكلم بالتضاد”
ومن الإشارات التي طرحتها أوريكشيوني، التي يمكن أن يعتمدها القارئ في فك سنن الرسالة الساخرة، نوعان من السياق:
السياق اللغوي contextelinguistique بواسطته نحدد شكل ( قلب المعنى).
خارج السياق اللغوي: Extra linguistique الذي يتمثل في رأيها في شيئين:
1- في التناقض بين النيات المتخذة، وبين ما نعرفه أو نلاحظه عن المرجع: فالمثال “ما أجمل هذا الطقس !” يوضح ذلك، إذ أن المتلقي إذا استقبل هذه الجملة في شروط أحوال جوية سيئة سوف يفهم الجملة على أنها حاملة لمعنى آخر بحكم عدم مطابقتها لواقع أحوال الجو، ومن ثمّ سيؤولها باعتبارها جملة ساخرة.
2- التناقض بين النيات المتخذة وبين ما نعتقد أننا نعرفه عن المتكلم: سواء ما يتعلق بشخصه وبأيديولوجيته وبخصائصه النفسية وكفاءته الفكرية” …
لذلك فإن كل المقاربات تبقى ضرورية قصد القبض على المعنى الثانوي في الإرسالية الساخرة والذي يعد أكثر ورودا وقابلية” .
إن الكاتب الساخر لديه مهارة التقليل من حجم الواقع في حديثه أو الانتقاص منه، ويرفض أن يعترف بمزاياه الخاصة، ويخفي معرفته من خلال التظاهر بالجهل، ويعتصم بموقف يعتمد على الاستفهام البحت. وهو أسلوب سقراط في السخرية حيث يتظاهر بالتواضع والجهل المصطنع والاستفهام، وكل ذلك يعكس تماماً الموقف الذي يتبناه الكاتب ونيته هنا التغابي لجعل القارئ يبحث بنفسه عن الحقيقة ويستنتجها وبالتالي فالهدف تربوي لكنه يجعل القارئ يمر في المرحلة الحرجة من خلال العبث.
سقراط مثلاً عندما يكتب ساخراً ينوي هدم القناعات الراسخة ولفعل ذلك يستخدم أسلوب الأسئلة المتلاحقة – التي قد تزعج القارئ – ولكنها تدريجياً تهدم القناعات الراسخة، وتقلب الدفاع المنطقي وتدفع الطرف المشارك في المحاولة الواثق من نفسه تماماً إلى أن يخوض تجربة العبث التي تفقده صوابه. وبالطبع يمد سقراط إليه يده بسرعة لانتشاله، ولكن بعد أن يتركه للحظة يواجه “الإحراج” أي يواجه الطريق المسدود”
من محسنات الأسلوب:
بعض الكتّاب اعتبر السخرية من محسنات الأسلوب وأداة للفصاحة. وكان ذلك يعني نشرها بل وإضفاء الطابع الإنساني عليها. ككانتيليان الذي اعتبرها جزءاً من علم البلاغة: “إنه ينظر إليها باعتبارها – بصفة خاصة – أسلوباً هزلياً ينتمي إلى الدعابة، ويجعلها مقصورة على التعابير البيانية وعلى زخرفة الأسلوب البعيدة عن الفكر” وهو نوع تختلف وجهات النظر حوله من حيث كونه يخضع للأسلوب لا للفكر، لكنه فتح أمام السخرية أبواب الأدب على مصراعيها ” .” كذلك اعتبرها كينيث بيرك المنظر الأدبي والفيلسوف من بين المجازات الرئيسيـة الأربعة والتي هي: الاستعـارة والكناية والمجاز المرسل والسخرية” .
بينما يرى آخرون أن الفكاهة “مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بظاهرة الاسترخاء المفاجئ التي يحدث فيها انتقال سريع من حالة الجد والتوتر إلى حالة اللهو والانطلاق” . وهي في هذه الحالة قد تنحو بعيداً عن الكتابة الساخرة التي تبني فكراً وتساهم في رقي المجتمعات.
——
أديب و مفكر و صحفي و شاعر مصري
عباس محمود العقاد، جحا الضاحك المضحك (القاهرة: دار النهضة، مارس 1997) ص 29
هنري برجسون، تعريب سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم، الضحك مرجع سابق ص107
باحثة في المجال الإعلامي
شعرية الرواية التسجيلية العربية- أطروحة جامعية- الفصل الثالث تحليل رواية “يحدث في مصر الآن، نسخة الكترونية
روبير اسكاربيت، ترجمة هدى علي جمال، الفكاهة مرجع سابق ص12
شعرية الرواية التسجيلية العربية
سميرة الكنوشي، بلاغة السخرية في المثل الشعبي المغربي
شعرية الرواية التسجيلية العربية
محمد أزباخ: السخرية في المسرح العربي الحديث، ص185
فيلسوف وروائي، كاتب مسرحي، ناقد أدبي، منح جائزة نوبل 1964م
بتصرف ، روبير اسكاربيت، الفكاهة، ص106
رمان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور( القاهرة: دار الفكر الطبعة الأولى 1991م) ص 159.
زكريا إبراهيم، سيكولوجيا الفكاهة والضحك، ص 110
لقد وصلت إلى الأكاديمية الملكية للكتابة الساخرة، المكان الذي نحول فيه كل مأساة إلى كوميديا! جاهز لتبدأ أولى خطواتك في عالم السخرية الاحترافية؟